الشيخ جمال يعيش في سيرلانكا منذ 10 سنوات، وكان في السعودية 20 سنة تقريباً، متزوج من سيدة سيرلانكية وله منها 5 أولاد. دعانا أنا والشيخ محمد أكرم جنيد الداعية الفاضل والشخص الذي أعده دليل سيرلانكا لأشهر الشخصيات واحداً من أشهر وأنفع 1,000 شخصية في سيرلانكا، دعانا للغداء في بيته الصغير والجميل وسط الأدغال بالقرب من منطقة وركابولا

حضرنا الغداء، وهي عادة عندي عندنا أزور البلدان أن أخصص غداء أو عشاء عند أهل البلاد للتعرف والتناقش والاستطلاع. وقد فعلتها مراراً مع اسرة سورية، ومغربية، وأردنية، وفلبينية، وبريطانية ..وغيرهم، وفي الغالب تكون بدعوى من أحد محبينا في هذه البلدان. ويعجبني عندما لا يكون في الأكل تكلفاً بل ما هو موجود


بعد الغداء جلسنا نتحاور. وصار يحدثني عن نشاطاته حيث أن يقوم بتنفيذ مشاريع الشيخ د. سطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة، الرجل الخير والعالم والفاضل والحاكم العادل، وواحدة من مشاريعه الخيرة هي بناء 3,000 مسكناً للفقراء وتسلم لهم مجاناً شريطة عدم التكمين من بيعها. صرنا نتحاور في قضايا كثيرة منها ارتباط المسلمين بين غير المسلمين، وصرت أحكي له عن وجهة نظري في كون الولاء والبراء مفهوم خاطئ عند أغلب المسلمين وغالب العلماء، فهم يرون أن الولاء للمسلم والبراء من الكافر، وهذا فكر عنصري متشدد، سبق به بعض اليهود لما أعلنوا أنهم شعب الله المختار وأن الشعوب الأخرى هي شعوب الغوييم” أي المهمشة. ولا يمكن أن يهمش الله 4 أو 5 مليار إنسان، حاشاه سبحانه، وهو الرفيق بعباده. فطلب مني الشيخ جمال أن استمر في التحدث عن هذا الموضوع وتحدثا ساعة في تبيين الدلائل على جواز بل وجوب حب الإنسان المسلم للعالمين، وأن من لا يفعل ذلك فلا يمثل توجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التبي صلى الله عليه وسلم يحب الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين. وطلب مني الشيخ جمال بلطف بعض الدلائل على هذا. فقمت أسرد له بعض الدلائل مثل قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)، وقلت له: هل لاحظت؟ هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إنك – اي يا محمد – لا تهدي – اي إلى الإسلام – من أحببت – أي عمه غير المسلم! أنه يحب عمه غير المسلم. هذا إقرار من الله أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب غير مسلم. فأخبرني أنه لم يقرأ التفسير من قبل هكذا، فتذكرت أني أنا أيضاً لم أقرأه هكذا؛ لأني كنت مثلي مثل غيري أبني قناعات ثم ألبس القرآن عليها! ويصير حديثي بعدها استشهاد بقول فلان وفلان. وطلب مني أن أزيده، فقلت قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً)، والأسير غير مسلمّ! وسردت عليه قول النبي صلى الله عليه وتزكيته في النجاشي ملك الحبشة، وقول ابن عباس رضي الله عنه في أنه يحب الملك العادل ولو كان غير مسلم . الى غير ذلك

فقام الشيخ جمال يريد أن يقبل رأسي، فحضنته وتأثرت من مشاعره؛ لأني لم أكن أدري أن هذا الموضوع مهم بالنسبة له إلى هذه الدرجة. وهذا الأمر يحصل لي كثيراً ان أتكلم مع شخص بموضوع فأسرد واستمر، فإذا هو أمر كان أصلاً يبحث عنه من زمان أو يريد ان يرتوي منه أو مسألة كان يعاني منها ووجد لها حلاً. ثم قال: والله سمعت من المشايخ في مصر والسعودية وفي السجون لم أسمع أحداً يقول هذا الكلام عن الإسلام! فقلت له، هذا يذكرني في أني يوم تفكرت في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لأني متيقن أنها ليست ما عليه معظم الناس اليوم بما فيهم العلماء والدعاة، ما هي؟! بل أحياناً اشعر أنها العكس تماماً!! لكني أكتم شعوري واحجب عن كلامي، وأحياناً أشعر بانسجامي فأصرح

أقول قلت له: أنا أعتقد ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك رسالة ضخمة بين حناياه، لكنني اكتشفت منها أربعة مسائل


أولاً: التوحيد الفردي: وهو في دعوة الناس إلى توحيد الله وحده سبحانه وعدم الإشراك فيه بشخص أو نبي أو ولي أو إمام أو سيد أو شجر أو حجر أو بقر أو منتظر أو معتبر أو غير معتبر .. توحيد بعلاقة خاصة لا وسيط فيها. لكنني أصر على تسميته التوحيد الفردي؛ لأن البعض ينقل هذه الفكرة إلى إجبار الناس على التوحيد والإيمان، وهذا لا يكون ألبته. بل أن الأمم التي دخلت الإسلام عنوة كالشعوب الأوربية تخلت عنه وتجردت منه بعد حروب طالت 800 سنة، بينما أكبر شعب مسلم اليوم هو أندونيسيا ويمثل أكبر تجمع ويرتبط بأكبر تجمع حوله في العالم من المسلمين لم يخوض افيه الإسلام حرباً واحدة، فهذا الشعب، والذي أثر بنجاشي العصر أوباما وأوصله بذكائه لحكم أكبر دولة، دخل الإسلام عن طريق حفنة من التجار الحضارمة الأفاضل الذين لم يكونوا دعاة ولا علماء بل ولا كانوا يحسنون الدين عبادة، غير أنهم تمثيل حقيقي للدين في معاملتهم وتجارتهم وأخلاقهم وقيمهم وشعرهم وغنائهم. فالله درهم كم صنيع عظيم فعله هؤلاء، ولو كنت فراشاً أو عاملاً عند أحدهم ما ندمت على عمري في خدمتهم


ثانياً: السلام. نشر رسالة السلام مع الله والكون والعالم والأرض والناس والنفس والأسرة .. السلام في كل شيء. السلام مع الله؛ فالله ليس هذا الأله المحارب المترصد بالعباد المشغول بهم .. بل هو الله الرحيم الذي غلبت رحمته وسبقت وانتشرت، الإله الذي يعصيه الإنسان ليل نهار فيقول كلمة فيهوي كل ما فعله، الإله الذي بكلمة “الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة” يغفر كل الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر، الإله الذي يقول: (قل لعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)، الإله الذي من قال “بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم «ثلاث مرات، كافراً كان أو مسلماً، عاصياً أو طائعاً، كبيراً أو صغيراً، آمنا أو خائفاً، حفظه دون العالمين والكون كله! هذا الإله الذي لو قلت: ربي، قال: عبدي. هذا الإله الذي لو جأته يوم القيامة بكلمة “الله، باسمه، بتوحيده، غفر لك كل ما جرفت ولا يبالي. كيف يكون هذا في عقيدتنا ونحن مرعبون من لقاء الله، ونخاف الله طوال الوقت، وخطباؤنا مولعون بتخويف الناس منه، ودعاتنا أشكلوا في العلاقة بيننا وبين الله فلا شعرت الناس بالسلام ولا هي استجابت لنداءاتهم

جاء ليبني السلام. السلام مع النفس، حبها، وصيانتها، وإكرامها، وتقديرها .. السلام مع الآخرين في الكون وفي الأرض مسلمين وغير مسلمين، مؤمنين وغير مؤمنين .. السلام .. انا بحثت في جامعتي (ميشغن الشرقية) الموسوعات الكبيرة للأحبار اليهود ووقعت على كنز مرة لا يقرأه الناس في الثرات اليهودي وبحثت في رجل السلام: عيدالله بن سلام الحبر الذي زكاه الله في القرآن على إسلامه، وهو الذي روى الحديث عند دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: قال: نظرت في وجهه فإذا وجهه ليس بوجه كذاب .. الله الله الله .. هذا رجل صادق، زن عليه قومه بأنه كذاب وأنه يفتن وأنه يلف العقول ويؤثر في الناس، فما التفت لهم، وما تبع السلف وما سار على من قبله، بل اقتحم الميدان ليكشف بنفسه المسألة، يقول: فقال: أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلو الجنة بسلام!! الله الله الله .. بدأ بالسلام – أفشوا السلام – وختم بالسلام – تدخلوا الجنة بسلام، وراوي الحديث عبدالله بن سلام. سبحانك ربي كيف ترتب الأمور 

السلام مع النفس، النفس المطمئنة، لا اللوامة ولا العاتبة ولا المتأنبة ولا الكارهة ولا المحاربة .. بل النفس المطمئنة والتي هي وحدها التي لها الجنة في الدنيا والآخرة .. السلام معها بجلسة تأمل، جلسة صمت، جلسة استرخاء، جلسة عبادة، جلسة خشوع، جلسة ذكر، جلسة اعتكاف، جلسة تحنث .. كل بمنزلته ودرجته


ثالثاً: المحبة: وهي أصل الأصول وعمق العمق ومعنى المعنى وحياة الحياة، الحب الذي اختطفه منا فكر شرَق وغرَب فصارت الناس لا تعرف الحب المطلق حتى ولا الحب الغرامي، فهي تزعم المحبة لله ولا تحب عباده، وترى المحبة في الله وتكره دنياه، وتدعو لبر الوالدين وتقوم بقتل والدين الآخرين، وتدعو لمحبة الأم وتيتم أمهات، وتدعو لمحبة الأولاد وتضريهم وتضطهدهم .. حتى ضاع معنى الحب المطلق، بل والحب الغرامي صار: يا من هجرتني وأنا أعطيتك وأنت رميتني وأنا ضحيت لك وأنت هاجرني، حتى أني سمعت شاعر مرة رأيته يستقبل في مطار الكويت استقبال الملوك يقول: لعن أبو جده كل ما جيته .. ما احغظ الباقي ولا أريد حفظه ولا سماعه. وسمعت مغنية مغربية مرة تقول: أكرهك أكرهك بشدة وقوة!! ومثل ذلك

الحب اصل في العلاقة الإنسانية، ومنه حب غير المسلم وغير المؤمن والحيوان والدنيا والعالم والآخرة .. ومن لا تحبه كيف تدعوه، بل كيف يستجيب لك. أخرج معادلة الحب من الدنيا فقد أوجدت جهنم على الأرض


رابعاً: البهجة. طيعاً هذه كانت بالنسبة للشيخ أكرم والشيخ جمال الصاعقة. نحن مبرمجون – على الأقل – في بيئتي أنا – على أن الدنيا جد واجتهاد، حتىى أن شاعرنا يقول: إن الحياة عقيدة وجهاد. ولما فشل بعضنا في المبادئ الأولى التوحيد والسلام والمحبة، ضاعت البهجة! فلم نعد نقول أن الإسلام يجلب الطمانينة والبهجة والسعادة. قمنا نفول لكم يا أيها المسلمون الآخرة! كأنهم نفوا الدنيا خلاص من المعادلة. ومن اقوال ابن تيمية – رحمه الله – في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقولهم، كما في القران، يوم القيامة (هذا الذي رزقنا من قبل) أي أصلاً كنا فيه، فكيف يرزقه من قبل من هو يعيش بتعاسة وقلق وكراهية


صحيح أن الفلسفة تأتي أولاً؛ لأن الإنسان دونها بتعس


نظرت في وجه الشيخ جمال فإذا عينيه قد أدمعت، والشيخ أكرم يسجل على ورقة وقلم بسرعة. ولما لقيتهم في اليوم الثاني قال الشيخ أكرم اليوم عملت محاضرة في الجامع الكبير في أسس رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت ما علمتنا بالأمس من الأسس الأربعة، وكان الجميع منشد إلي وبعض الطلبة يكتب، ولحقني أحدهم فسألني: كتبت ثلاثة لكن الرابعة، ماهي؟ فقلت له: يقيناً نسي البهجة، فتبسم وقال هي! وأنا أعرف أنا البهجة نتاج الأعمال الأولى. أنت إذا رأيت الشخص مبنجها فاعرف أن دينه صحيح.